الامبراطورية لا ينقذها إلا التغيير

الامبراطورية لا ينقذها إلا التغيير

قبل نحو قرنين من الزمان، زار البارون همبولت رئيس الولايات المتحدة جيفرسون، فوجد جريدة على مكتبه، فلمَّا تناولها وجد فيها مقالاً قد امتلأ بكلمات السباب والقذف فى الرئيس، فنظر إلى الرئيس، وقال: "كيف تسمحون بهذا السباب؟!"، فأجابه الرئيس قائلاً: "خُذْ هذه الجريدة وضَعْها فى جيبك، فإذا وجدت من يشك فى حقيقة حرِّيتنا، أو حرِّية الصحافة فى الولايات المتحدة، فأعْطِها له"!

ولقد وقف أوباما فى ليلة الانتصار ليقول لجمهوره المنتشي، وللعالم أجمع الذى عرف الرئيس بوش كيف يُكرِّهه بالولايات المتحدة، إنَّ فى هذا الذى حدث الليلة خير ردِّ وجوابٍ على كل المشكِّكين المتشككين فى العظمة القيمية للولايات المتحدة، التى فى قوَّة قيمها ومثلها ومبادئها، وليس فى قوة اقتصادها وجيشها، على ما قال الرئيس المنتخَب، تكمن عظمتها.

لتقارنوا الآن بين القولين والعصرين حتى تقفوا على السبب الحقيقى لظاهرة أوباما، ولانتصاره المدوي.

إنَّ أوباما، ظاهرةً وانتصاراً، هو البيان الذى فيه، وبه، أعلنت القوة العظمى فى العالم إفلاسها القيمي، وسقوطها الفكرى المدوي، فهذا الرجل، وبما يمثِّل، إنَّما هو خير دليل على أنَّ الدهر قد أفسد الولايات المتحدة؛ ولن يكون فى مقدور أى عقار أن يصلح شيئاً أفسده الدهر!

لا تنظروا إلى أوباما فحسب؛ ولكن انْظروا من خلاله إلى ما يتوفَّر "المُنْقِذون"، من رجال ومؤسسات وقوى، على صنعه، أو اجتراحه، فالسؤال الذى استبدَّ بتفكيرهم "الاستراتيجى والتاريخي" إنَّما هو: هل بقي، بعد هذا السقوط القيمى والفكرى والإيديولوجى المدوي، من شيء إيجابى يمكن فعله، ولو عن اضطرار، توصُّلاً إلى اجتذاب العقول والقلوب، على استعصاء الأمر، بعد، وبسبب، كل هذا الخراب البوشي، إلى الولايات المتحدة، التى استبدَّ بها الشعور بالعظمة حتى عاملت العالم بأسره على أنَّه الأصغر منها فى كل شيء، عدا المساحة والسكان؟

لقد حاروا فى الجواب حيرة من يحاول الحصول على شيء من إنسان ما عاد يملك من هذا الشيء شيئاً؛ فهل يقولون للعالم ما قاله جيفرسون للبارون همبولت وهم الذين يعلمون علم اليقين أنَّ "غوانتانامو" هى "الحقيقة" التى تمحو كممحاة كل رواية جديدة يخطها مداد الوهم، وأنَّ "الحرب على الإرهاب" لم تنتهِ إلى إلقاء القبض على أسامة بن لادن وإنَّما إلى إلقاء القبض على خير ما تمتَّع به مواطنو الولايات المتحدة من حقوق وحرِّيات ديمقراطية ومدنية.. أم يقولون، وكأنَّ العالم له عيون لا تبصر، وآذان لا تسمع، وعقول لا تعقل، إنَّ لدينا فخر ما صنع، ويصنع، التاريخ، وهو "الليبرالية الجديدة"، فى الاقتصاد والإيديولوجيا، والتى لِفَرْط كمالها واكتمالها حقَّ لها أن تأمر التاريخ بالتوقُّف عن الحركة، فاستخذى لها، وتوقَّف؟!

ولكن، كيف لهم أن يقنعوا العالم وهو الذى يعاين ويعانى عواقب هذا الانفجار المتسلسل لفقاقيع "الليبرالية الجديدة"، والذى ما أن وقع فى "وول ستريت" حتى أصابت شظاياه العالم أجمع، فى دليلٍ على أنَّ الولايات المتحدة ما عاد فى مقدورها، بعد، وبفضل، عولمتها لليبراليتها الجديدة، أن تنتحر من غير أن تنحر العالم معها؟!

هل يقولون للعالم الذى أثخنوه هُمْ بجراح التعصب الدينى إنَّ الولايات المتحدة ولو فقدت أعزَّ ما تملك لن تفقد أبداً تفوقها العلماني، وتساميها عن كل تعصب دينى يَسْقُط بالبشر إلى الدرك الأسفل من الوحشية فى صراعٍ يشبه صراع رجلين أصلعين على مشط؟!

وكيف لهم أن يقنعوه وقد رأى "الثيوقراطية" تنمو وتزحف، بفضل "المحافظين الجدد"، حيث "هُبَل الحرية" يرمز إلى الماضي، ويُبْلِغ إلى شعوب الأرض أنَّ "الحرية" فى الولايات المتحدة أصبحت أثراً بعد عين؟!

لم يبقَ فى "احتياطهم القيمي" من قيمة يمكن إذا ما أشعلوها أن تضيء كضياء شمعة فى ظلمة الكون إلاَّ "مساواة الأسود بالأبيض" مساواةً ليس فيها من الذهب سوى لمعانه، فوقع خيارهم على أوباما؛ وهل للمفلس من خيار غير العودة إلى دفاتره القديمة لعلَّه يعثر فيها ولو على ثلاثين من الفضة؟!

وخطب أوباما فى جمهوره وكأنه أراد أن يقول، أو أردوا هُمْ أن يقولوا بلسانه، إنَّ للعالم أن يشكَّ وأن يتشكَّك فى كل ما كنا نفخر به من قيم، كالحقوق والحريات الديمقراطية والمدنية، ومبادئ السوق الحرة، والليبرالية الجديدة، والعلمانية ونبذ التعصب الديني؛ ولكن ينبغى له أن ينحنى لنا إجلالاً واحتراماً بعدما أقمنا الدليل الحى على أننا قد طلَّقنا ثلاثاً التعصب العنصرى ضد السود "والملونين على وجه العموم" وجئنا بهذا الرجل إلى عرين الحضارة الأنجلو- ساكسونية، أى إلى البيت الأبيض.

وذهبت تلك الليلة التى كانت ليلى؛ وليلى هى الخمر، وجاء المؤتمر الصحافى الأول للرئيس المنتخب؛ وشتَّان ما بين اللحظتين، فقبيل المؤتمر أبلغوا إلى أوباما "الحقيقة" التى لا يعرفها سوى قلة فليلة من العارفين كوزير الخزانة هنرى بولسون.

كلمة واحدة هى أهم ما قاله أوباما فى مؤتمره الصحافي.. إنَّها كلمة "الحفرة". انسوا كل ما قاله وتذكَّروا قوله، الذى يشبه "كلمة السر"، "إننا فى حفرة "اقتصادية""!
الآن، عرف الرجل لماذا "تساموا" عن تلك العنصرية، وجاءوا به إلى أعلى القمة، فـ "رودوس" هناك، فَلْيَقْفِز إليها من هنا!

لقد استثمروا فى أوباما آخر ما بقى لديهم من "رأسمال قيمى وإيديولوجي"، لعلَّه يشحن بطارية "وول ستريت"، ونظامهم الاقتصادى برمته، بطاقة روحية ومعنوية، يمكن أن تتحوَّل، بحسب قانون "حفظ الطاقة"، إلى طاقة اقتصادية؛ ولكن هيهات لما يتمنون، فهذا الرئيس المنتخَب لن يكون أبداً بطل التغيير، أى بطل الإنقاذ، فهو ما كان له أن يأتى لو كان الإنقاذ ممكناً. إنه خير رمز إلى "استعصاء التغيير"!