هل تندلع الانتفاضة الثالثة؟

هل تندلع الانتفاضة الثالثة؟

يخوض الفلسطينيون فى الضفة الغربية، منذ مدة، نضالات مزدوجة ضد السلطات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية من جهة وضد المستوطنين من جهة اخرى.

ويبدو الذى يجرى حاليا مختلفا كميّا ونوعيا عما حدث فى السابق سواء من حيث عمليات الاعتداء التى يقوم بها المستوطنون ضد السكان الفلسطينيين المسالمين أو من حيث الأشكال والوسائل التى يعتمدها الفلسطينيون للتصدى لاعتداءات هؤلاء.

فقد انتشرت،فى مواجهة عنف المؤسسة والمستوطنين الصهاينة واعتداءاتها، مقاومة شعبية عفوية، فى الغالب، فى عدة قرى من الخليل وبيت لحم ورام الله وطولكرم وقلقيلية ونابلس وجنين وطوباس والأغوار وحول مدينة أريحا والقدس أيضا..

وتميزت تلك المقاومة بإتباع الفلسطينيين عدة أشكال ووسائل نضالية تراوحت بين العمليات العنيفة الفردية غير المنظمة، والعمليات العنيفة المنظمة، إلى العمليات السلمية النوعية.

فقد تميز النوع الأول من العمليات العنيفة بالنجاعة برغم بساطة الأدوات المستخدمة كسكب المواد الحارقة على جنود الإسرائيليين العاملين فى بعض الحواجز التى تقيمها سلطات الاحتلال، إلى عمليات رشق رموز السلطة والمستوطنين بالحجارة فى الضفة والقدس الشرقية وأحيانا داخل الخط الأخضر...

وقد تحولت مناسبة جنى الزيتون السنوية التى يقوم بها السكان المزارعين فى الضفة الغربية إلى مواجهة منتظمة بين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين المتطرفين الذين يستقرون عمدا فى أراض قريبة من حقول الفلسطينيين الزراعية تلك.

وتتحول المضايقات التى يقوم بها المستوطنون فى الغالب إلى اعتداءات جسدية ضد الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم من ذلك إضرام النار فى بعض أشجار الزيتون فى حالة عدم القدرة على اقتلاعها.وتتم هذه العملية الإجرامية بمساندة ضمنية من قوات الجيش والشرطة وهو ما يؤدى إلى عرقلة عمليات الجنى وفى كثير من الأحيان إلى مصادرة المزيد من مساحات الأرض الفلسطينية تحت اسم "أمن المستوطنين".مما يضطر الفلسطينيين إلى الردّ على اعمال العنف تلك بوسائل مختلفة من ذلك ما يقوم به سكان قرية بلعين، الصغيرة الواقعة قرب رام الله، إذ يقوم هؤلاء بتنظيم مسيرات شعبية سلمية باتجاه الجدار، وذلك بعد ظهر يوم جمعة من كل أسبوع.

وعادة ما تستقطب تلك الممارسة النضالية عشرات المتضامنين من الإسرائيليين والأجانب وهو ما شكل نموذجاً جديداً للتظاهر والاحتجاج الشعبي.. وأسرعت بعض القرى والبلدات الفلسطينية فى السنتين الأخيرين فى محاكاة تلك التجربة، الأمر الذى أثار قلق السلطات الإسرائيلية وخوفها من اتساع تلك الظاهرة فى عموم الضفة.

ومن أشكال الاحتجاج الجديدة التى اعتمدها الفلسطينيون أيضا تسلل أصحاب الأراضى والمتظاهرين، المتضامنين معهم، ليلا إلى الحقول ويقومون بربط أجسادهم بأشجار الزيتون وذلك قبل وصول الجرافات صباحاً لاقتلاعها كما يرتدى بعض المتظاهرين أكفانا بيضاء تكتب عليها بعض المبادئ والشعارات والمثل الإنسانية: العدل والإنسانية والحق والأخلاق، وذلك فى إشارة إلى سقوط هذه القيم الإنسانية على أيدى جيش الاحتلال الإسرائيلي... كما يقوم بعض المتظاهرين برفع أعلام بعض الدول الكبرى ويكمّمون فى نفس الوقت أفواههم بأشرطة لاصقة وذلك للتعبير عن الصمت الدولى تجاه ما يجرى ضد الفلسطينيين..بينما يرفع البعض الآخر مجسّمات للجدار العازل فوق أعناقهم فى حين يقوم آخرون بتوزيع الأعلام الفلسطينية على الحضور وذلك كتعبير من قبلهم عن تشبثهم بأرضهم وبالوحدة الوطنية...

وبالتوازى مع تلك الأشكال النضالية السلمية الجماعية يستمر فلسطينيون آخرون فى ممارسة أشكال نضالية عنيفة، فردية غير منظّمة، تتمثل خاصة فى العمليات الفدائية النوعية، نذكر منها العمليات الخمس التى حدثت خلال هذه السنة التى نفذها فلسطينيون مقدسيون حاملون لبطاقات هوية زرقاء أو بطاقات إقامة دائمة. وحسب معطيات جهاز مخابرات الاحتلال "الشاباك" فإن هذا النوع من العمليات قد تزايد بشكل ملحوظ فى السنوات الأخيرة إذ قام أفراد هذا الجهاز باعتقال 340 مقدسيا بين السنوات الممتدة بين 2001 و2008 بتهمة ضلوعهم فى عمليات عنيفة.

من جهة أخرى تواصلت المقاومة العنيفة المنظمة التى تنطلق من قطاع غزة، برغم اتفاقية التهدئة إذ أظهرت دراسة أعدها مركز التنمية المجتمعية للدراسات والإعلام فى الخليل أن فصائل المقاومة المسلحة نفذت "1810" عملية مسلحة انطلاقا من قطاع غزة فى الفترة الممتدة ما بين 15 جوان/حزيران 2007 ولغاية 14 جوان/ حزيران 2008. فيما بلغ عدد العمليات المشتركة بين جناحين أو أكثر "713" عملية.وتميزت هذه العمليات بالتنوع أيضا.

إذ تراوحت بين الاشتباك مع قوات الاحتلال إلى إطلاق القذائف على المستوطنات والتجمعات والآليات العسكرية إلى تفجير العبوات الناسفة وقنص الجنود والمستوطنين.

وبالنتيجة بلغ العدد الجملى لكافة عمليات المقاومة، المنفردة والمشتركة، حسب نفس المصدر "2523" عملية نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة ضد معسكرات جيش الاحتلال أو ضد المستوطنات المحيطة بالقطاع، فى الفترة الممتدة ما بين 15جوان / حزيران 2007 ولغاية 14 جوان/ حزيران 2008.فما هى الأسباب التى تدفع هؤلاء السكان غير المنتظمين غالبا فى تنظيمات أو أحزاب سياسية للقيام بتلك النضالات؟

إنها بكل بساطة، كما يقول البعض، الاستفزازات المتنوعة والمختلفة: السياسية والميدانية التى يقوم بها أفراد الجيش الإسرائيلى والمستوطنين تجاه الفلسطينيين.

فعلى المستوى السياسى خاب أمل الفلسطينيين من إمكانية قيام الدولة الفلسطينية مع إصرار الدولة الصهيونية على عرقلة جميع مبادرات السلام واستمرارها فى بناء المستوطنات فى الأراضى الفلسطينية المحتلة والتشجيع على ذلك فعمّ نتيجة لذلك الاستياء فى صفوف اغلب الفلسطينيين.

من جهة أخرى تزايدت اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين فى الوقت الذى تغضّ فيه سلطات الاحتلال النظر عن أعمالهم برغم الادانات التى تصدر من هنا أو هناك حتى من قبل حلفاء إسرائيل.كما اخذ الغضب يعمّ الكثير من القيادات والكوادر الفلسطينية العليا و الوسطى، فى رام الله، نتيجة تعنّت إسرائيل و تعديها على "المصالح القومية الفلسطينية العليا" ومن عدم رضا البعض من تلك القيادات ومن الطريقة التى تدير بها السلطة الفلسطينية المفاوضات وشؤون الناس عامة...

أما ميدانيا فقد ضاق الناس ذرعا من الحواجز العسكرية الإسرائيلية "بلغ عددها أخيراً 630 حاجزاً" المقامة على مداخل المدن والقرى، ومن وقوفهم اليومى وانتظارهم المرهق والمذلّ لساعات طويلة الأمر الذى يغذى نزوع الكثير منهم إلى العنف، كما بينت ذلك نتائج بحث ميدانى قام به مؤخرا احد علماء الاجتماع الفلسطينيين..

لقد دفعت، كل تلك التطورات وغيرها من مظاهر النضال، البعض للحديث عن إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة فى الوقت الذى هدد فيه أكثر من مسؤول من السلطة الفلسطينية بالدفع باتجاه انطلاق انتفاضة جديدة.

واستغل بعض من قيادى حركتى الجهاد الإسلامى وحماس أحداث عكا الأخيرة للقول أن ما جرى هناك "يشكّل مقدمة لانتفاضة ثالثة يقودها الفلسطينيون داخل أراضينا المحتلة"؟!. كما حذّر الشيخ عزام الخطيب مدير أوقاف القدس، بدوره من مضاعفات بالغة الخطورة "ستهز المنطقة إذا ما تم المسّ بالمسجد الأقصى، وتنفيذ المخططات الرامية إلى تهويد القدس".وبالتوازى مع ذلك تحدث بعضهم أيضا عن انتفاضة الزيتون.

وبالعكس من ذلك يرى بعض المحلّلين عدم إمكانية حدوث انتفاضة جديدة وذلك لغياب الظروف المساعدة والمحفّزة لإنجازها، هذا دون الحديث عن الذين لا يرغبون فى حدوثها أصلا، سواء من داخل السلطة الفلسطينية أو من داخل الدولة الصهيونية، كل حسب مصالحه.

ويعتبر بعض الكتاب الإسرائيليين انه بالرغم من تصاعد النضالات الفلسطينية فإن ذلك لا يشير بالضرورة إلى إمكانية اندلاع انتفاضة جديدة ويرى البعض من هؤلاء أن السكان فى الضفة الغربية عموما يعيشون فى حالة إنهاك بفعل الاحتكاك المتواصل مع المستوطنين وقوات الاحتلال لمدة سبع سنوات ونصف السنة، لذلك فإن هؤلاء غير مستعدين لممارسة مواجهات جديدة واسعة خاصة مع بلوغ الجيش الإسرائيلى وجهاز الشاباك فى الضفة إلى مستوى جيد الجهوزية وهو ما يسمح لهما بالتالى لإحباط أى انتفاضة جديدة"؟!" غير أن هؤلاء لا يستبعدون فى الوقت نفسه "اشتعال" الضفة فى حال شنت القوات الإسرائيلية عملية عسكرية واسعة فى القطاع واحتلال أجزاء منه...

وفى الواقع فإن طرح خيار الانتفاضة فى هذه الظروف، يبدو كأحد الخيارات التى تتردد بقوة وإلحاح عند الكثير من أطراف النخب الفلسطينية وذلك بسبب انسداد الآفاق والآمال لدرجة أن البعض أصبح يتمنى بل يراهن على اندلاع انتفاضة علّها "تقضى على سلطة رام الله الوهمية وتعيد أواصر الوحدة النضالية بين القطاع والضفة"ووضع إسرائيل والمجتمع الدولى كل أمام مسؤولياته.

ومهما كان الأمر فإن اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة ليس فعلا مستحيلا بل هو ممكنا.

ولا ينتظر ذلك قرارا من هذا الطرف أو ذاك. بل إن اندلاع انتفاضة ثالثة من عدمها إنما يتحدد تبعا لتراكم تجربة الشعب الفلسطينى السياسية وضغط الظروف المعيشية وتفاصيل الحياة اليومية للسكان ونظرة هؤلاء للأداء السياسى للقيادة وتقييمهم لسلوك الأعداء.كما تتحكم فى اندلاعها أيضا ظروف إسرائيل الداخلية من ناحية، والظروف الإقليمية والدولية من ناحية أخرى.. فقد تندلع انتفاضة جديدة، لكنها لن تكون كسابقاتها، بل ستكون بخصائص ومميزات مختلفة عن سابقاتها.

وقد يتطور شكل الأحداث ومضمونها فتأخذ اسما أو صفة أخرى غير الانتفاضة وهو أمر محكوم بالروح النضالية والإبداعية للشعب الفلسطيني...