كم قد قتلت، وكم قدمت عندهم ثم انتفضت فزال القبر والكفن

ثقافة الصبر والأمل

الصبر والأمل حالتان توأمان.. وإحساسان متداخلان يرفد كل منهما الآخر..

هما حالان تحتاجهما النفس الإنسانية عبر مشوارها الطويل للتغلب على عسر الحياة وصعابها، وقهر ويلاتها لبلوغ الغايات والأهداف المنشودة.. ‏

فلولا الصبر لما حقق الإنسان على مر العصور شيئاً.. ولولا هذا الإحساس العميق على تقبل صعاب العمر لظل الإنسان يراوح في بدائية واقعه، وتخلف حياته.. فبالصبر والتصميم عبر الإنسان طريقه الطويلة منذ خليقته الأولى.. وبالأمل سار إلى مدارج التقدم والحضارة والارتقاء.. فكان له ماأراد وتمنى.. ‏

مامن كبير، وعظيم، ومبدع إلا وكان الصبر خياره، والأمل في تبدد الليل ملاذه في مسيرة عمل لاتلين، وإرادة لاتهون، وأمل كبير يبتسم كفجر يتوكأ على التلال، مبشراً ببلوغ الأهداف والأمنيات والغد الأفضل..

الصبر هو التعايش البنّاء مع الواقع الفعلي بصعابه وتقبله كما هو من خلال الأمل على تبديده وتعديله والارتقاء به عبر عمل جاد وإرادة روحية قوية نمنح الأمور حقها درساً، وتعمقاً، واختباراً لئلا نتعثر بالأخطاء المؤذية، إذ لاحياة من دون صبر، لأنه لانجاح من دونه، ولامراد من دون التمسك بحباله... ‏

فالأنبياء جميعاً صبروا.. والفلاسفة جميعاً صبروا.. والزعماء الكبار.. والعباقرة والفنانون المبدعون عملوا وصبروا، فنالوا ماتمنوا... ولنا في صبر الأمهات والآباء على أبنائهم أسوة حسنة، فلولا صبرهم علينا لما بلغنا مابلغناه، ولولا أملهم في أن نكون غداً شيئاً ينسيهم عذاباتهم منا لما كنا وكانوا... ‏

ماأجمل وأروع صبر شاعرنا الكبير (المتنبي) عندما يقول واصفاً صبره وتصميمه: ‏

كم قد قتلت، وكم قدمت عندهم ثم انتفضت فزال القبر والكفن ‏

إنها الحياة التي لاتنتهي دروسها على حد قول (مارون عبود)... ولعلنا لانغالي إذا أكدنا أن جلائل الأعمال قد أتت نتيجة الوقت المتاح، والصبر، والأمل عبر عمل دؤوب وحثيث.. فالصبر شجرة ضخمة جذورها مرة، لكن ثمارها حلوة.. والأمل نور يلوح في الأفق فيشعل الحماسة فينا والتصميم.. ‏

تقول أسطورة إن الشيطان أراد بيع أسلحته (الخداع والكذب والغدر) فباعها كلها، لكنه رفض بإصرار عجيب التخلي عن سلاحه الأمضى (اليأس) مؤكداً ومبرراً أنه الأداة الفاعلة التي ماخيبته في فتك الإنسان وتدميره كاشفاً إنه باليأس والتيئيس أحبط الناس، وأثبط عزائمهم، ودفعهم إلى كل الشرور، وصولاً للانتحار.... وفي هذا مايعكس مبلغ خطورة اليأس على الإنسان، وقديماً قال سلفنا الصالح: (تفاءلوا بالخير تجدوه) مايعني الصبر على مشاق العمل، والأمل في تحقيق النجاح من أجل تحفيز الطاقات، وشحن الإرادات.. ‏

وهنا نقول مع (مصطفى كامل): «إن الإنسان الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه وكأنه أمر واقع».. ‏

وفي هذا يقرر (أنطون مقدسي): «إن كل يأس من الإنسان خطيئة لاتغتفر».. ‏

وفي الدعوة إلى التفاؤل يقول شاعر حكيم: ‏

وماتفضل الأيام بعضاً ببعضها ولكن أيام الملاح ملاح ‏

فليكن واحدنا جميلاً، وسوف يرى الوجود جميلاً.... ‏

يقول (أبو العتاهية): ‏

هي الأيام والغير وأمر الله يتنظر ‏

أتيأس أن ترى فرجاً فأين الرب والقدر ‏

وهنا تدق أبواب ذاكرتي بقوة فلسفة الأمل لدى (جلال الدين الرومي) الذي عاش في القرن السابع الهجري، وهو من أشد العصور تمزقاً وظلاماً حيث شهد العالم الإسلامي هجمات المغول والتتار.. فتنقل (الرومي) من مدينة لأخرى حاملاً معه ألمه وتمزقه، وصور تلك المشاهد المروعة عن الموت.. لكنه رغم كل ذلك أتحفنا بروائعه الشهيرة المعروفة بالمثنوي التي تضم (48000) بيتاً من الشعر تبعث الأمل في النفس الإنسانية، وتعلمنا كيف نوقد شموع الأمل بدل الاستياء واليأس من ظلام الليل، وجور الأيام... ‏

هذه ليست موعظة لمثلنة مفاهيم الحياة، وتسهيل ويلاتها وتحجيم صعابها.. لكنها دعوة صادقة لفهم الحياة، واكتناه معطياتها، وقوانينها، وخصائصها.. ففي كل شتاء ربيع نابض ووراء كل ليل فجر باسم... ‏

احسب أن الأزمات والصعاب التي تجتاز مراحل عمرنا المختلفة تستولد فينا الحكمة، والحنكة، والقدرة على فهم أعمق للحياة وإحاطة بمعانيها، وهي التي تعلمنا وتصنعنا.. ‏

فمن خلال العاصفة يعرف الربان الماهر.. ‏

وفي الملمات والأزمات ـ وكم هي كثيرة ـ نردد قول (ابراهيم اليازجي): ‏

«يابائع الصبر لاتشفق على الشاري فدرهم الصبر يسوي ألف دينار».. ‏

قد يقول قائل: (إنما للصبر حدود).. فأرد بقولي: ‏

«هذا كلام أغنيات، وهمسات، وعتابات عشاق.. أما الواقع فإن الصبر لاحدود له».. ‏

فالمتاعب كالجبال الشاهقة تنبسط أمامك كلما ارتقيتها.. والحياة كفاح في البر، وقتال في البحر، وعقيدة وجهاد.. وخطوة إلى وراء وخطوتان نحو الأمام.. مايعني ـ بتقديري ـ إنه لاوجود للمستحيل أمام العمل والأمل والصبر، فالفرق بين المستحيل والممكن يكمن في تصميم الإنسان وإرادته... ‏

يبدو الصبر والأمل بمنزلة ثقافة يحتاجها كل منا منذ بداية مشواره كي تظل طقساً ينبغي الاعتياد عليه في مراحل عمرية مبكرة لأن الصبر عملية نفسية طويلة طول عمر الإنسان، وهو مرتبط بفكره، ودرجة تأهيله، وردات فعله، وتاريخ تجاربه... ‏

لعل مانشاهده اليوم من أفراد، شبان وشابات، يائسين، قانطين سواء لإحباط أصابهم، أو لانكسار حلم.. أو لصدمة ألمت بهم لهو أمر مؤسف، ويكشف مقدار هشاشة هؤلاء الذين يحدثونك عن انسداد الأفق أمامهم، واستحالة تجاوز الصعاب، وماذلك إلا مدعاة ليأس قاتل يشل قوى وقدرات الإنسان على تنمية البدائل والخيارات.. وفي قول الشاعر (محمد بن بشير) مؤكداً أهمية صبر الشباب مايعزز صحة مانذهب إليه: ‏

كم من فتى قصرت في الرزق خطوته أصبته بسهام الرزق قد فلجا ‏

إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل مالتجا ‏

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ‏

وهنا تكمن أهمية طرق أبواب الأمل بالنجاح، لأن الباب لايفتح ليد لاتدق عليه دقه بعد دقة.. ولعل هذا مايذكرني بقول داهية العرب (معاوية بن أبي سفيان): ‏

«العقل والحلم أفضل ماأعطي الإنسان».. فإذا كان العقل هو الناظم لأداء الناس وتصرفاتهم ومشاريعهم، فإن الحلم هو الوسيلة المستمرة التي لايمكن إغفالها... ‏

وفي هذا يلهمنا (الإمام علي): «الدهر يوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلاتبطر.. وإذا كان عليك فلاتضجر، فكلاهما سينحسر».. ‏

على أن المشكلة المستحكمة لدى بعضنا تبدو في ضعف الرؤية، وغياب الإرادة، وانعدام التخطيط، والتخبط في الخيارات، والاستغراق في الأحلام والأمنيات.. مايستحضر مقولة (أحمد أمين): «الضعيف يأمل، والقوي يعمل» فيما يعتقد سلفنا الصالح: «الأماني بضاعة الحمقى، وهي سلطان الشيطان على قلوب الغافلين».. ‏

ويرى (سوينبرغ): «بأن الأمم تنهض بالعمل والدماء والقوة وليس بالرجاء والأحلام».. ‏

ومن جديد تبرز أهمية العمل والأمل معززاً بالإرادة، باعتبار الأعمال كما يرى (ميخائيل نعيمة): «كالنساء تحبل وتلد».. فمن كان بلا صبر فهو بلا إرادة، وبلا قدرة على العمل والإنتاج والخلق والإبداع.. وفي هذا يشبه (موسيه) «فاقد الصبر بأنه قنديل بلازيت».. ‏

فاقد الصبر فاقد لكل شيء، محاصر باليأس والإحباط ينبري لإقامة جنازة مستعجلة لأحلامه، معتقداً بالحظ حيناً، وحاقداً على من وعدوه فأسرفوا في الكذب عليه، حيث تبددت كل الأعراس التي تمناها قبل مواعيدها.. وهي مشكلة وإشكالية أراها لدى بعض من النشء الجديد الذي بات يأمل بكل شيء، مستغرقاً في الأحلام ملاذاً من قسوة الواقع واستحقاقاته... ‏

للصبر فلسفة خاصة لايدرك قيمتها إلا من جرب الإبحار فيها، فخاض غمار التجربة، واكتوى بنارها، فنال جائزتها التقديرية بجدارة عمله وصبره وإرادته.. فالصبر هو إرادتك، وقوتك، وتصميمك.. وفي هذا يقول (الإمام علي): ‏

«ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها، كنتم على غيرها أقدر، وإن خذلتم فيها كنتم عن غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح أولاً».. ‏

ماأروع هذه الفلسفة في الصبر، وماأجمل ثقافة الأمل.. وكم حري بالمرء أن يحيط بها معرفة، وإلماماً، وتثقيفاً.. وإن يروض نفسه للحلم على كل شيء.. وماأعظم أن يخوض الإنسان التجربة وسط الأمواج المتلاطمات، مايذكرني بقول (شكسبير): ‏

«من خلال أشواك الخطر نحصل على زهور السلام» ‏

بعد كل شتاء قاس ربيع زاهر.. وبعد كل ليل ظالم فجر باسم يتوكأ على التلال.. إنها فلسفة الصبر والأمل، وماكان فيها من عبر ومرامٍ يجدر استلهامها لاسيما أن الأحداث تتكرر في حياة الأمم والأوطان والأفراد.. وماأكثر العبر وماأقل من يعتبر.. على حد قول (الإمام علي).. فما أجمل أن يكون الصبر أداتنا، والعمل نبراسنا، والأمل سميرنا.. ‏

‏

(الإمام علي): ‏

«ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها، كنتم على غيرها أقدر، وإن خذلتم فيها كنتم عن غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح أولاً»..