تركيا أردوجان و الشرق الأوسط

يصف أحد المحلّلين الأتراك ردة فعل رجب طيب أردوجان على كلمة شيمون بيريز في مؤتمر دافوس الاقتصادي بأنها كانت لطمة عثمانية من حاكم تركيمعاصر، درس جيداً تاريخ الدولة العثمانية وينتسب بوجه من الوجوه إليها واللطمة العثمانية معروفة جيداً عند الأتراك.
فهي تعني الردّ الغاضب على شخص يرفع صوته عالياً ويفتقد في الوقت نفسه إلى الحدّ الأدنى من المصداقية، فكان لا بد من تلقينه درساً قاسياً، ولا شك أن شيمون بيريز فوجىء بقوة هذه اللطمة التي تلقاها لا في غرفة مقفلة، بل في منتدى دول عامر بحضور ذوي المقامات العالية وأمام سمع العالم وبصره. وكان لهذه اللطمة - وهنا المهم - أثرها الذي سيتسع يوماً بعد يوم. ولو شئنا الدقة أكثر، قلنا إن تركيا التي تزداد إسلامية وفلسطينية وقرباً من المنطقة وقضاياها، لن تعود بعد اليوم تركيا التي اعتادت عليها إسرائيل في الربع الأخير من القرن العشرين، أي تركيا المتحالفة تحالفاً استراتيجياً معها الى درجة نسيان كل الروابط التي تربطها بالمنطقة وأهلها. والواقع أن من راقب ردود الفعل العالمية على أحداث غزة الأخيرة، لفتته المظاهرات المليونية التي سارت في شوارع أنقرة واسطنبول، والشعارات النارية التي رُفعت فيها. وهي مظاهرات لم تشهد مثلها أية عاصمة عربية. وقد خُيّل لبعض من شاهدها على الفضائيات إنها مظاهرات عربية لولا اللسان التركي الذي كان يهتف به المتظاهرون، ولولا الشعارات المكتوبة باللغة التركية. ومن شاهد هذه المظاهرات لن يستغرب إذا ما أقدم أردوجان على تقديم طلب الى جامعة الدول العربية للانضمام إليها. فهذا الانضمام الذي يُفترض ألا يقف أحد من العرب في وجهه، من شأنه لا تجديد هذه الجامعة الهرمة وبعث الحيوية فيها، بل إعلام العالم كله بأن اسرائيل لن تستطيع بعد اليوم استفراد غزة أو غير غزة، وأن على العالم برمته أن يقف بوجه الفجور الذي تمارسه الدولة اللقيطة وهو فجور لا ينبري أحد من ذوي التأثير في العالم لردعه، بل إن الجميع يتسابقون لكسب الود الإسرائيلي لأنهم يخافون اليهود ولأن العرب في الوقت نفسه ضعفاء!. ولعل شيمون بيريز من بين قادة اسرائيل هو الوحيد الذي يعرف تاريخ الدولة العثمانية جيداً، وأهمية أن تكون تركيا الحديثة مع هذه الجهة أو تلك. فهو ينتمي الى فئة المؤسسين للدولة العبرية وكان في يوم من الأيام سكرتيراً لبن غوريون الذي عاش قسماً من حياته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يوم كانت الدولة العثمانية ما تزال إحدى القوى السياسية البارزة في العالم يومذاك. ويعرف بيريز أن مؤسس الصهيونية الحديثة ثيودور هرتزل قصد مرة اسطنبول ومعه كيسه عارضاً على السلطان عبدالحميد إيفاء كل ديون الدولة العثمانية مقابل إعطاء اليهود حكماً ذاتياً في بعض أنحاء فلسطين . وقد رفض السلطان العثماني هذا العرض وطرد هرتزل من بلاطه وأمر ولاته على فلسطين بأن يقفوا موقفاً متشدداً من بيع الأراضي لليهود. ويقول المؤرخون إنه كان لهذا الموقف العثماني من المشروع الصهيوني أثره في سقوط عبدالحميد، كما كان بداية لتدهور الدولة العثمانية وانهيارها، ثم الإتيان بالكمالية العلمانية فيما بعد. وباستمرار وجد اليهود في هذه الكمالية خير عون لهم لا في نهب الاقتصاد التركي وحسب بل في انشاء اسرائيل نفسها ومدّها بالمساعدات على أنواعها، وقيام حلف سياسي وعسكري معها كان أول المتعجبين منه الأتراك أنفسهم. فصحيح أن العرب خانوا الدولة العثمانية عندما تحالفوا مع الحلفاء ضدها، وبذلك ساهموا في سقوطها، إلا أن عقوبة هذه الخيانة لا يجوز أن تصل إلى حد التحالف مع اليهود، أعداء الإسلام في التاريخ، وتكوين شراكة استراتيجية معهم بوجه العرب والفلسطينيين، ومع أن الأتراك، ومعهم حكامهم، ومنهم على الخصوص عدنان مندريسي ونجم الدين أربكان، كانوا يتململون من العلاقة التركية المميزة مع اليهود، ويريدون التحرر منها، إلا أن الضغط الأمريكي عليهم كان يقف سداً منيعاً بوجه محاولاتهم. إلى أن وصل الى السلطة رجب طيب أردوجان وحزبه الإسلامي، فكان لا بد من مراجعة السياسات التركية السابقة إزاء إسرائيل تمهيداً لاتخاذ موقف جديد على ضوء متغيرات جديدة في المنطقة وفي العالم. لم يكن ما جرى في دافوس هو المؤشر الوحيد على أن الأتراك بدأوا يراجعون أو يتراجعون عن العلاقة الحارة التي كانت تربطهم بإسرائيل. فالواقع أن هناك مؤشرات كثيرة على موقف تركي جديد من اسرائيل ومن المنطقة بدأ يتبلور في الأشهر الأخيرة ترفده انتفاضات شعبية داخلية مؤيدة. فتركيا قلقة من الفراغ الكبير في المنطقة ومن سعي ايران الحثيث لملئه. ففي غياب الدولة أو الدول العربية القوية، وفي غياب المشروع القومي العربي على الخصوص بادرت إيران الى تأسيس مشروعها القومي الخاص متوسلة حيناً المذهب الشيعي، ومداعبة حيناً آخر الأحلام العربية والفلسطينية المجهضة، وواعدة على الدوام بجنّات تجري من تحتها الأنهار. وكان من الطبيعي أن يتجاوب بعض العرب مع إيران، وبخاصة الشيعة، وأن ينكفىء عنها الآخرون لأسباب مذهبية وغير مذهبية. كما كان من الطبيعي ألا تعزل تركيا نفسها داخل حدودها وأن تحصر كل همها بعضوية الاتحاد الأوروبي. فتركيا جزء جوهري من تاريخ وجغرافية الشرق الأوسط وقد حكمته حوالي أربعمائة سنة. وتركيا هي وريثة الدولة العباسية مباشرة، كما هي الدولة التي وصل نفوذها، زمن الامبراطوريات الى حدود مدينة فيينا. فمن الطبيعي وقد تسلمت السلطة فيها نخبة ذات توجه قومي وإسلامي أن تلتفت الى المنطقة التي تجاورها وأن تحلم بأن يكون لها فيها دور نافذة وإلا وجدت نفسها ذات يوم تدافع عن حدودها الجنوبية والغربية بوجه دولة أو دول كثيراً ما خاضت الحروب بوجهها. فلتركيا إذن مصلحة لا في إثارة خناقة في ملتقى دولي في منتجع سويسري، بل في لعب دور وراءه مصالحها القومية والاستراتيجية قبل كل شيء. ثم إن العرب بأكثريتهم الساحقة لا يعترضون على هذا الدور التركي، بل يرحبون به نظراً لضعفهم أولاً وثانياً لأن المصالح التركية تلتقي مع مصالحهم. يضاف الى ذلك تلك الحاجة العربية الملحة لردع إيران ولردع اسرائيل معاً، وكون الأتراك قوة سياسية وعسكرية واقتصادية يُحسب لها حساب في السياسات الدولية. فتركيا دولة إسلامية كما هي دولة حديثة وهو ما يؤهلها لمخاطبة العالم بلغة واقعية وعقلانية. وهذا ما تفتقر إليه إيران والكثير من دولنا. وتركيا يحكمها اليوم حزب إسلامي مستنير يتزعمه قائد أثبت للأتراك قبل سواهم أن له قامة تاريخية لا تقل عن قامة العلماني أتاتورك الذي بدأ نفوذه يتراجع بقوة في السنوات الأخيرة. ثم إن لهذا القائد مصلحة قومية وشخصية في هذا التغير التركي الذي يُشاهد الآن بالعين المجردة، وسيُشاهد أكثر في الأسابيع والأشهر المقبلة. إن مشهد أردوجان وهو يصف شيمون بيريز بالقاتل، ومشهد زوجته المحجبة تبكي في منتدى دافوس هو مظهر من مظاهر هذا التغيّر، ولكنه ليس المظهر الوحيد.
بقلم : جهاد فاضل (كاتب لبناني