ما أشبه الشعر بالتفاعلات الكيميائية!! وما أشبه بيت الشعر بالمعادلة
الكيميائية!! وما أشبه القصيدة بسلسلة تفاعلات كيميائية!! ولكن كيف ولماذا؟
التفاعل الكيميائي هو أخذ وعطاء ، هنالك ألكترونات سالبة الشحنة تحوم في
مدارات حول النواة لعنصر ما، ترتبط بالجاذبية نحو النواة ، وعندما تتعرض
للإثارة بقربها من مادة أخرى تعشق شحنة موجبة في تلك المادة الأخرى برابطة
الغريزة والحب تماماً كما هو التجاذب الغريزي بين الذكر والأنثى ، وتتحول
من الكترون الى أيون عاشق ملهم متيم يسبح في بحار الحب (المحلول
الكيميائي) باتجاهها ، فتنجذب اليها وتتحد معها لتكوين عنصر أو مادة جديده
بصفاته أو صفاتها الوراثية المشتقة من المادتين. إذن التفاعل الكيميائي هو
أخذ وعطاء بين الذرات والعناصر والمركبات ، لإنتاج عناصر ومركبات جديدة
ينتج عن هذه التفاعلات منتج جديد وطاقة يستفيد منها الإنسان ويسخرها
لخدمته.
والتفاعل الكيميائي يقوم على قاعدة أساسية وهي ثبات المادة والطاقة في
الكون ، تماماً كما هي دورة الحياة ، يولد الإنسان من نطفة ويتحول الى
علقة ثم مضغة على شكل كتلة من اللحم حول هيكل عظمي وتنفخ فيه الروح ،
وتسري في جسده الدماء تمنحه الحياة والقوة والحركة ، ويتغذى على النبات
والحيوان ، ويتنفس الأكسجين من الجو ويخرج ثاني أكسيد الكربون الذي هو
مكون رئيسي في غذاء النبات ، ويخرج النبات من عملية التغذية غاز الأكسجين
الضروري لحياة الإنسان ، ويموت الإنسان والحيوان والنبات ويتحلل جسده
ليصبح غذاءً لدود الأرض وسماداً في تراب الأرض يستفيد منه النبات. وكذلك
فإن الحيوان يتغذى على النبات والحيوان وهنالك نبات يفترس دوداً ويتغذى
عليه وهكذا.
يُعبَّر عن التفاعل الكيميائي بالمعادلة الكيميائية ، التي هي (في صدرها
المواد المتفاعلة وفي عجزها المواد والطاقة الناتجة) ، وتتحول المادة الى
حالاتها المعروفة (الصلبة والسائلة والغازية) أثناء التفاعل الكيميائي ،
أي من الجمود الى الهيام الى التسامي وهي حالات من أطوار الحب ، فقبل رؤية
الحبيب يكون القلب جامداً لا ينبض بالحب ، وبعد رؤيته وعشقه يهيم فيه ،
ومن ثم يتسامى معه في الوفاء لرسالة الحياة محلقين في أجواء الصفاء
والمتعة.
بالنسبة للشعر:
الشعر عبارة عن شحنات وخلجات وأيونات حسية تتولد في الخواطر والوجدان
تولدها الأحداث السعيدة والتعيسة ، وتسبح في خيال الإنسان ، وتولد فيه
الأحاسيس والمشاعر ، ويترجمها الإنسان حسب قدرته ومواهبه ، فمن الناس من
يعبر عنها بحركة ميكانيكية ينتج عنها موسيقى مطربة أو مشجية أو صوت نشاز ،
ومنهم من يعبر عنها بصوت (صرخة) أو أغنية أو موال، ومنهم من يعبر عنها
بكلام غير موزون(النثر) بمقالة أو بقصة أو خاطرة أو رواية أو مسرحية ومنهم
من يكبتها في نفسه تسبب له ألماً كامناً يتراكم الى أن تنفجر بجلطة أو
ذبحة أو تترجم الى مرض عضال ، ومنهم من يعبر عنها بالشعر (الكلام
الموزون). وبالتالي فإن كل إنسان يعتبر شاعراً. وكل انسان بأحاسيسه وردات
فعله أحس وشعر بالحدث وعبر عنه بطريقته حسب قدرته. وأطلق على من يعبرون عن
أحاسيسهم بالكلام الموزون شعراء وعلى الكلام الموزون شعر.
إذن ما يجمع بين الشعر والتفاعلات الكيميائية جاذبية ناتجة عن حدث تؤدي
الى حركة بدافع الإحساس بالحب في حركة محسوبة وموزونة بقوانين الطبيعة
التي أودعها الخالق لإستمرار الحياة أساسها وقاعدتها هو الوزن بإعمال
العقل الذي يميز بين الصح والخطأ ، والمعادلة الكيميائية بناء على قانون
ثبات المادة والطاقة في الكون لا بد من وزنها حتى تكتسب الصحة والدقة
العلمية ، فالمواد المتفاعلة يجب أن تساوي في وزنها المواد الناتجة إن
كانت المعادلة في سياقها العلمي والمنطقي تحقق هدفاً علمياً صحيحاً
ومفيداً ومتسقاً مع المنطق والعلم وينتج عنها طاقة ايجابية ، وخلاف ذلك
تعتبر تجريبية عشوائية وأحياناً عبثية بأهداف منحرفة عن الخط العلمي ولا
تحقق هدف البحث العلمي والفائدة المرجوة منها وينتج عنها طاقة مدمرة لا
تنفع الإنسان ، والمعادلة غير الموزونة وغير المحسوبة يصعب توقع نتائجها
ومدى تدميرها وضررها على الإنسان بفعل الإنسان المنحرف عن شرائع الخالق
والذي يطبق شريعة الغاب على هذه الأرض. وكما أن هنالك تجاذب بدافع الحب ،
هنالك تنافر بدافع الكره والحقد والغيرة والحسد ، وما زال الصراع محتدماً
بينهما.
هنالك هدف كيميائي أحادي التفاعل ، يتم الوصول اليه بتفاعل كيميائي يعبر
عنه بمعادلة كيميائية واحدة ، وهنالك قصيدة شعرية تقوم على وحدة البيت ،
أي أن كل بيت شعري يحقق هدفاً مستقلاً عن ابيات القصيدة الأخرى ويعتبر
مثلاً شائعاً يستشهد به دون ذكر القصيدة كلها. ويقوم على وحدة البيت.
وهنالك هدف كيميائي متعدد التفاعلات الكيميائية للوصول اليه ، ولا بد من
إجراء سلسلة من التفاعلات الكيميائية معبراً عنها بسلسلة معادلات كيميائية
مستقلة عن بعضها البعض في خطوات معملية متدرجة وربما في أكثر من معمل
كيميائي مثال ذلك معادلات إزالة عسر الماء ، وهو شائع في الصناعات
الكيميائية للوصول الى المنتج المفيد وهو الهدف. وهنالك قصائد شعرية تقوم
على وحدة القصيدة أي تجزيء الهدف وتكامله في القصيدة من أول بيت فيها الى
آخر بيت أي وحدة القصيدة. كالشعر الروائي والمسرحي.
المفارقة الوحيدة بين الشعر العمودي والمعادلة الكيميائية هي القافية ،
المعادلة الكيميائية لا تعترف وتلتزم بالقافية ، فلا ضرورة أن تنتهي
المعادلة بنفس العنصر في كل مرة سواءً كان الهدف الكيميائي أحادي المعادلة
أو متعدد المعادلات. إنما تلتزم الوزن الدقيق لتحقيق أهداف علمية نافعة.
وحقيقة الأمر فإن القافية في أحيانٍ كثيرة تشكل عائقاً أمام الشاعر
للتعبير عن المعنى الدقيق الذي يهدف الوصول اليه وايصاله لعملائه من
القراء والمستمعين ، وأحياناً يضطر الشاعر الى اسقاط البيت الذي لن يجد له
قافية تتسق مع القصيدة ويستغني عن التعبير عن تلك الخلجة. أو يختار كلمة
تقارب المعنى المقصود ولا تلبسه أو تلامسه تماماً ، فيظهر كمن يرتدي ثوباً
فضفاضاً يعرقله أو ضيقاً يكعبله ، خاصة في القرن الماضي الذي تزاحمت فيه
الأحداث على وطننا العربي الكبير ، واضطرمت فيه التفاعلات تثير الوجدان
والخواطر بموجات متلاحقة متداخلة. فكان لا بد من الثورة على القافية
أحياناً والوزن أحياناً أخرى وكلاهما معاً للتعبير عن تلك المعاني المعبرة
عن الأحاسيس والخواطر الكثيرة. وهنا ظهر شعر التفعيلة والشعر الحر
والمنثور وتزايد الشعر النبطي والشعر الشعبي والعامي. ولكن يبقى العامل
الحاسم في الشعر هو الوزن تماماً كما هو في المعادلة الكيميائية العلمية.
وكل كلام يخلو من الوزن لا يعتبر شعراً من وجهة نظري الشخصية ، وكان لا بد
من التمرد على القافيةلإعطاء مزيد من الحرية للشعراء في التعبير عن
أحاسيسهم لتلامس أحاسيس القراء والمستمعين وتخدم الأهداف المرجوة منها.
ولا اعتبر ذلك مانعاً لكل شاعر أن يعبر عن دواخله بأي صورة يريدها لتفريغ
الشحنات المحتقنة بداخله لكي لا يصل الى حالة الإنفجار.ولا إجد ذلك ما
يعيب نشرها أو قراءتها أو الإستماع اليها. حيث أن ذلك يتيح لمجتمعنا
التعرف على نبض الشارع وخاصة لمن هم في كرسي القيادة لعلهم يستمعون ويعون
مصالح شعوبهم ويتعرفون على همومهم وتوجهاتهم ويقومون اعوجاجهم.
عندما فكرت في كتابة الشعر خطر على بالي أولاَ قضيتي ووطني وأهلي وما
يعانون ، فأول فكرة خطرت ببالي أن أسجل قدر المستطاع ما عاصرته وسمعت عنه
من أجدادي ووالدي التراث الشعبي الفلسطيني والغزل بفلسطين بوصف تضاريسها
ومناخها وحيواناتها ونباتاتها وخيراتها وحنانها على مواطنيها ، ولصعوبة
رسم اللوحة الشعرية بقافية موحدة عدلت عن الفكرة بعض الوقت ، ولكن إلحاحها
علي واستحسانها في نفسي جعلني أقرر التمرد على القافية ، فقلت في نفسي لن
تمنعني القافية أن أكتب لوطني ولشعبي واتغزل في بلدي وافتخر بتراثي.، حيث
أن أسماء الموروثات الشعبية واسماء الأماكن يصعب أن أضعها في قصيدة موحدة
القافية.
وهذه دعوة الى كل إنسان أن يعبر عما بداخله بدون حرج أو خوف أو حياء مهما
كان اسلوب تعبيره من الكلام الموزون وغير الموزون ، العامي والفصيح ،
شريطة أن لا يتعدى الخطوط الحمر لثقافتنا وأخلاقنا وديننا وأديان غيرنا ،
لأننا شعوب تعاني من الكبت الكثير ومن زحمة الهموم والأحزان وندرة الأفراح
، وهذا أقل ما يخفف عنا كربتنا في أوطاننا ، ودعوة للنقاد أن لا يقسوا على
محاولات التعبير عن الشحنات المتلاطمة في دواخل إنساننا العربي الذي يريد
إخراجها كي لا تقتله أو ترميه مشلولاً ومعاقاً. وأن يتحلى نقادنا وحكامنا
بسعة الصدر وأن ينظروا للنصف المليء من الكأس في نقدهم تماماً كما هو
الحال للنصف الفارغ منه. ويقدموا النصف المليء على النصف الفارغ في نقدهم
لكي تنمو المحاولات الخجولة وتتطور لتحويلها الى إبداعات في أجواء
ديمقراطية وخاصة محاولات المبتدئيين واصحاب المواهب المغمورة.
الشعر العمودي كان في عصر بطيء الحركة ، وفي صحراء صافية ، ولأهداف محدودة
بمقدار محدودية الأهداف والمتطلبات والمعطيات والمخرجات والمنتجات في ذاك
العصر البطيء ،كان ينحصر في البكاء على الأطلال والمديح والتفاخر والغزل
والرثاء والهجاء ، وقليلاً ما تعرض للأوطان ، حيث قساوة البيئة الصحراوية
بحرها وبردها ومطرها المجنون ، ولم يرتبط بمكان حيث التنقل وراء العشب
والماء ، وما عرفناه عن الأماكن كان بعد أن أصبحت أطلالاً وركاماً خاوياً
رحلت عنه المحبوبة مع قبيلتها. كبرقة ثهمد ، وحومل وسقط اللوى والدخول.
وأخبرنا عن حصان عنتره وناقة امرؤ القيس ومغامراته الغرامية وحدثنا عنترة
عن عبلة وطرفة عن خولة. لا ننكر ضرورة دراسته وقراءته للبناء عليه
والإستفادة منه في طول نفسه وتألق مواهب شعرائه وسعة خيالهم ودقتهم في
الوصف والإلتزام بقوانين الشعر وفي تعدد ألفاظه وجزالتها وصعوبة فهمها من
الأجيال المعاصرة ، وخلوه من العاطفة الوطنية التي تدغدغ أحاسيسنا كثيراً.
ولكن هذا لا يجب أن يكون قيداً نتقيد به في زمان لا يلائم زمانه في كل
السمات ، وذلك لا يمنع أن يقتدي به من يستطيع الإلتزام بقوانينه ووضعه في
قالب يمكن تسويقه في زمانه الذي يحياه. ونحن نعيش في عصر سريع الحركة ،
كثير الأهداف والتحولات ، يحتاج الى وقت قصير وسريع وخاطف للتعبير عن
الفكرة أو الخاطرة لتصيب هدفها في لحظة استحقاقه لتؤتي أكلها. وما أكثر
واسرع توارد خواطر وخلجات الإنسان العربي في هذا الزمان المرتد