الرسول صلى الله عليه وسلم حذرا

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام الأتمان
الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين.. وسيد ولد آدم أجمعين .. نبينا وإمامنا
وحبيبنا وقدوتنا محمد صلى عليه وسلم ..
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
الرسول صلى الله عليه وسلم والحياة في حلقة شبه مثيرة؛ لأن هذه الحلقة
فيها بيان لمنهج عجيب من مناهج النبي صلى الله عليه وسلم للتعامل مع فنون الدعوة،
وفي التعامل مع سنن الحياة، عنوان هذه الحلقة الرسول صلى الله عليه وسلم حذرًا..
كيف كان يحذر؟
قد يسأل سائل فيقول: أليس هو معصوم؟
أليس الله سبحانه وتعالى
مطَّلع عليه, ويحميه, ويحفظه من كل عين, ومن كل حاسد, ومن كل ظالم يريد أن يعتدي
عليه { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}؟
الجواب على مثل هذا السؤال أن
النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يعلمنا فن فهم الحياة، فن التعامل مع الناس،
وكيف يكون المرء حذرًا في هذه الدنيا بضوابط معينة، بمفاهيم معينة حتى يستيطع أن
ينسجم مع طبيعة الحياة، ينسجم مع طبيعة الناس، مع أفكارهم المتغيرة.
وكذلك كيفية
حل المشكلات، يعني فيه بعض الأمور حتى تُحل تحتاج لنوع من السر، نوع من الكتمان،
نوع من الهدوء حتى تستطيع أن تنتهي من حل هذه المشكلة، فهذا فن من فنونه صلى الله
عليه وسلم في التعامل مع عقول الناس ومع أفكار الناس، وهذا يجعلنا نتحرك كيف يمكن
أن أفهم فلان وطبيعة فلان، هل هذا إنسان مؤذي أم إنسان خير..
ولذلك تجد أن كثير
من الصالحين ابتلوا في هذه الدنيا بسبب أشخاص حسدوهم أو حقدوا عليهم، والمرء لم يكن
حذرًا.
فهي ليست حلقة كما يقال سياسية تخوف، إنما فيها جزء من السياسة، أن
الإنسان يفهم منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في سياسة الحذر.. في سياسة التعامل مع
الأشخاص.
نبدأ فهم هذه الحلقة بقصته الشهيرة عليه الصلاة والسلام مع عمرو بن
عبسة في صحيح مسلم.. عمرو بن عبسة يقول كنت ربع الإسلام (يعني رابع أربعة من الرجال
دخلوا الإسلام) فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد سمع به من قبل، فوجده
عند الكعبة المشرفة، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام من أنت؟ شوف السؤال المباشر..
عمرو بن عبسة إنسان ذكي وإنسان قارئ قراءات سياسية وتاريخية جيدة، قال من أنت؟

قال عليه الصلاة والسلام أنا نبي.. (الآن يعلن بوضوح.. لا نفهم من الحذر أنك
تكون كاتم على كل معلومة وكاتم على كل خبر وطريقة ومنهج حياة، لا.. بس فيه أشياء
تكون واضحة وأشياء تحتاج إلى حذر) قال أنا نبي..
قلت ما نبي؟ قال: يعني أرسلني
الله..
قلت بأي شيء أرسلك؟
قال أن يعبد الله وأن يُوحَد ولا يُشرَك به
شيء.. وأن تكسر الأصنام وأن تُوصل الأرحام (يعني بعد لا الصلوات ولا العبادات.. لا
شيء بعد.. لازالت الأمور في بدايتها.. )
قال عمرو بن عبسة (شوفوا الذكاء) قال من
معك؟ (من ماشي معك في الطريق هذا؟)..
(كان النبي عليه الصلاة والسلام أذكى منه)
قال: حر وعبد (ما قال له أسماء.. قال حر [أبو بكر] وأبو بكر أصلا سيد في قومه، لو
افترضنا أنه عُرف فهو سيد في قومه، والعبد بلال، وبلال أصلا معذب، أحدٌ أحد.. فهو
معروف فيكفيك أن أعطيك فيه أحرار معنا في الطريق وفيه عبيد.. علمًا أن الذين أسلموا
من الصحابة هناك علي بن أبي طالب أسلم من الشباب، وعلي ما يتحمل هذا الموقف، من
الموالي زيد بن حارثة، من النساء خديجة، وحاضنته أم أيمن.. ما ذكر له نساء ولا
رجال.. قال فيه أحرار وفيه عبيد، ورتب كلماته عليه الصلاة والسلام، لو افترضنا أنه
ما وراء الخبر كما يقولون، فالحر هو أبو بكر والعبد هو بلال الحبشي)..
قال:
فقلت اجعلني معك يا رسول الله.. خليني معك أمشي في هذا الطريق..
قال: ليس الآن..
لأن هذا الصحابي كلامه كثير وربما لم يُعرف تاريخه بعد، فقال على العموم إذا اقتنعت
فهذه دعوتنا، يعني دعوة إلى الله سبحانه وتعالى ودعوة إلى التوحيد وكسر الأصنام
وصلة الأرحام والأشياء التي يقبلها الدين الصحيح.. قال: فقلت ليس الآن إذا سمعت بي
هاجرت إلى المدينة فأت لي.. بعد ثلاثة عشر عامًا جاء عمرو بن عبسة، وفي الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجل أسماء الصحابة.. فيه هناك كات يكتب الأسماء، ترى
فلان أسلم، فلان زارنا في اليوم الفلاني، وفلان دخل معنا في اليوم الفلاني.. فلما
جاء المدينة قال: يا رسول الله أتعرفني؟
قال نعم أنت الذي أتيتنا عند الكعبة..
وذكر له قصته.. قال إحنا عارفينك.. والآن الوقت مناسب أن تتحدث وأن تتكلم.. فرأى
الصحابة يتوضئون.. قال يا رسول الله الوضوء علمني.. علمني الآن الوضوء وتعاليم
الدين..
قد يقول قائل مستعجل لماذا لا ندله على الدين, وندله على الإسلام,
وندله على تاريخنا, وندله على كل شيء، هذا الصحابي قد لا يفهم، قد لا يستوعب، وكثير
من الناس ظلم بسبب أن المعلومات غير صحيحة عنده، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام
كان حريصًا على الدعوة، حريصًا على الدين، حريصًا على رسالة الإسلام..
كذلك كان
عليه الصلاة والسلام قد اتخذ مكانًا هو دار الأرقم بن أبي الأرقم، هذه موجودة جهة
الكعبة، واتخاذ هذا المكان شيء جميل جدًا، أن الناس بسهولة تأتي إليك وتزورك،
وتتعرف عليك، ليس مكانًا قصيًا أو مكانًا صعبًا، أو تختفي في مكان لا تعرفه.. لا..
المكان معروف قريب من الكعبة المشرفة، دار الأرقم على الصفا اليوم.. اللي يذهب إلى
العمرة الصفا والمروة جهة الصفا كان موجود دار الأرقم.. فاتخذ النبي صلى الله عليه
وسلم مكانًا لزيارة الناس والتعرف على الناس.. فمرة من المرات أبو ذر الغفاري لما
أراد أن يسلم.. أيضًا نفس قصة عمرو بن عبسة.. أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام
وهو عند الكعبة متوسد، فطبعا تعرف الليالي ذوات العدد قد صبر وتعب حتى أنه جاع وما
وجد طعامًا، لكنه يريد أن يتعرف على الدعوة إلى الله.. فيقول كنت أشرب من زمزم حتى
ظهرت عقل بطني.. أطراف بطنه صار فيه مثل الشحوم من كثرة الماء.. ثلاثة أيام
بلياليها لا يأكل ولا يشرب إلا زمزم.. فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم عند
الكعبة المشرفة وتعرف عليه وسمع بدينه.. مدة دقائق معدودات؛ لأن الوضع ما يحتمل،
فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن انطلق في دعوة الإسلام، فخرج أبو ذر
الغفاري إلى أهله وحدثهم عن الدين وحدثهم عن الإسلام وتفاعل وتحرك، (المنطقة اللي
فيها أبو ذر قابلة للكلام، قابلة لرفع الصوت، قابلة للحديث.. فأسلم على يديه
القبيلة كلها؛ لأن له مكانة وله دور) فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا
مرة أخرى عند الكعبة المشرفة، فلما رآه قال ما الأمر؟ فقال له رضي الله عنه
وأرضاه.. قد أسلم قومي "غِفار" وأسلمت "أسلم" أسلم اللي هم الآن من بيت السلمي،
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يديه على رأسه وقال أسلم!!.. يعني أسلم معروفين أنهم
قطاع طرق.. فأنت استطعت كشخص أن تهدي قبيلتك وتهدي قبيلة أسلم؟ فتعجب النبي عليه
الصلاة والسلام.. فأراد أن يبلغه بالأخبار أن الناس الحمد لله قد أسلمت وبعد ذلك
يريد أن يعطيه المعلومات عن الناس.. فسأل عنه فوجده عند الكعبة.. فبالأخبار
والمعلومات وجد علي بن أبي طالب.. فقال يا علي إني عندي أخبار وعندي معلومات عن
قبيلتي أريد أن أخبرها للرسول صلى الله عليه وسلم.. فقال ما في مشكلة ندخلك الآن
إلى دار الأرقم.. فلما وصلوا إلى جهة دار الأرقم قال علي ترى أنا حاسس أنه معنا ناس
يراقبونا.. فإذا رأيتني نزلت لكي أصلح نعلي فمعناها أن نحن مراقبين.. أو أنني أخذ
الماء أريد أن أريقه.. كأنه يريد أن يقضي حاجة.. فهذا معناه أنه مشغول أو أن الناس
تراقبنا.. وإذا وجدت الأمر طبيعي فامش معي.. فكل ما رأى موقفًا صنع ذلك علي بن أبي
طالب.. وإذا رأى الأمر هادئ.. لأنه أَعرَف بالأحوال وأعرف بالطريق وأعرف
بالجغرافيا، فدخل أبو ذر الغفاري عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..
طبعًا
الأمر لم يفعلوا أي شيء محرم، لم يقدموا خطة اغتيار أحد، لا.. لكن المنهج النبوي هو
تعليم الحذر في بعض المواطن.. وإلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام صدع بالدعوة
وتكلم بها ونادى أهل قومه وأهل قبيلته، كلهم ناداهم، ولكن أراد النبي عليه الصلاة
والسلام أن يعلم فنون الدعوة في شيء فيه من الحذر فيه شيء من السر.. بل حتى أحيانًا
تعلم منهج الأسرار، يعني أنا أريد أن أعطيك معلومة أقولها لها ولا أتمنى أبدًا أن
تُعطى للآخرين، فكيف تعرف إلا من خلال منهج تربوي.. يعني مثلا في عهد عمر بن الخطاب
رضي الله عنه مات النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عمر لكاتم سر رسول الله صلى الله
عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، أَعدَني رسول الله صلى الله عليه
وسلم من المنافقين؟ لأن أسماء المنافقين معروفة، مكتوبة عنده.. وأسماء الصحابة
الذين أسلموا مكتوبة عنده.. فقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.. لا أستطيع يا أمير
المؤمنين.. أنا ما أستطيع.. قال أيكسر الباب أم يُفتح؟ قال بل يكسر الباب.. فعلم
أنه سيقتل رضي الله عنه وأرضاه.. قال ولا أحدث أحد بعدك.. لاحظوا أن حذيفة بن
اليمان مات الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهت يفترض الأسرار، حتى السر الذي أذاعه
له النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر به الخليفة، اللي هو أمير المؤمنين عمر..
لماذا؟ لأن هذه معلومات أنا مؤتمن عليها.. ما أستطيع أن أعطيها لك وإن كنت الخليفة
وإن كنت الإمام، هذا منهج تعليم الأسرار، اللكمات التي ينبغي أن يقولها الإنسان لك
في لحظة حذر في لحظة كتمان.. قد لا يكون أمرًا سياسيًا.. لكن سأعطيك معلومة خاصة
بأهلي.. معلومة خاصة بنفسي، معلومة خاصة بوضعي الاجتماعي.. أو بوضعي الثقافي.. أو
ما إلى غير ذلك.. كيف تفهم منهج الحذر لو لم تتعلم هذه الطريقة من النبي صلى الله
عليه وسلم ..
إذن لاحظوا كيف أنه استطاع أن يحمي الصحابة وأن يجمعهم في دار
الأرقم بن أبي الأرقم جماعات جماعات، وخير شاهد الآن العصر الآن.. ما هو تطبيق
العصر؟ تطبيق العصر أن أحمد ياسين رحمة الله عليه قائد حماس لما كانت هناك مقابلة
فقيل له قبل 80 ميلادي حوصرت وضُيقتم وأوذيتم إيذاءًا شديدًا، ما استطعتم أن
تتحركوا.. كل القوات حولكم، سواء الأعداء في الداخل أو الأعداء من الخارج، فكيف
استطعتم أن تجمعوا هذه الأعداد الضخمة بعدئذ؟
قال منهج النبي صلى الله عليه وسلم
في دار الأرقم بين أبي الأرقم، طبقوا هذا المنهج، وهذا المنهج أن أجمع جماعات صغيرة
هذه الجماعات الصغيرة تتكون فيما بينهم كل خمسة مع بعضهم البعض وفي الرواية هنا..
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الرجلين إذا أسلما، وكان يذهب بهما إلى أحدهم
فيطعمانه من الطعام، قد ما يكون معهما طعام، فواحد يهتم بهم واثنان معهما، وهذا
المنهج مجموعات صغيرة، كل ثلاثة كل خمسة في بيت يذكرون الله سبحانه وتعالى ويتعلمون
ويسترشدون بهذا المنهج الراقي، إذن منهج الحذر منهج عظيم من مناهج النبي صلى الله
عليه وسلم..
ما هو موقف أم جميل؟ عرفنا منهج الرجال فلنأخذ الآن منهج النساء في
الحذر وفي السِّرية التي علمها لهم النبي صلى الله عليه وسلم.